د.عبد المنعم النمر
كيف كان جبريل ينزل بالقرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
لقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا السؤال من أحد أصحابه هو الحارث بن هشام فأجابه وقال: (أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني، وقد وعيت عنه ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعى ما يقول)..
قالت عائشة (رض) تحدث عن تجربتها مع الرسول حين نزول الوحي عليه: (ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقاً).
فهذا الحديث يبين لنا كيفية اتصال جبريل بالرسول ليبلغه وحي الله إليه سواء كان قرآناً أو غير قرأن، وهي حالتان:
1 ـ الحالة أو الكيفية الأولى: أن يبقى جبريل على حالته الروحية، ويتصل بالرسول، والرسول حينئذ يسمع مقدمات وصوله في مثل صلصلة الجرس، لأن من حوله كانوا يعرفون حالة الوحي من الحالة التي يعانيها الرسول وهو يتلقاه.
فيبلغه جبريل حينئذ ما يريد إبلاغه، والرسول في هذه الحالة لابد أن يقترب من روحانية جبريل، بروحانية تجعل حالته مغايرة لما كان عليه في أحواله العادية، ولذلك يعاني شدة وجهداً في هذا الانتقال، حتى إذا انتهى جبريل من الإبلاغ أخذ الرسول يعود إلى حالته الطبيعية العادية، وقد وعى تماماً ما تلقاه عن جبريل وأحس الجهد والتعب، وجبينه يتفصد عرقاً، كما وصفته عائشة، وهذه الحالة هي أشد الحالتين على الرسول كما يقول هو عليه الصلاة والسلام: (وهو أشده على) وقد تعهد الله لرسوله بأن يثبت في قلبه ما يلقيه جبريل في قوله: (لاتحر: به لسانك لتعجل به. إن علينا جمعه وقرآنه. فإذا قرأناه فاتبع قرآنه. ثم إن علينا بيانه).
فكان الرسول صلى الله عليه وسلم عقب انفصال الوحي عنه وعودته لحالته العادية يقرأ على أصحابه ما تلقاه من القرآن عن جبريل..
ب ـ أما الحالة الثانية التي بينها الحديث السابق: فهي أن يتحول جبريل من حالته الملكية إلى صورة إنسان، ويأتي لرسول الله يكلمه كما يتكلم الإنسان العادي، كما جاء في الحديث: (فيكلمني فأعى ما يقول)، وهذه الحالة سهلة على الرسول، إذ يبقى على حالته العادية ويسمع كما يسمع كلام أي إنسان آخر..
والشاهد الذي نذكره هنا لهذه الحالة: نزول جبريل لإبلاغ أمر غير القرآن، لأنه كان ينزل بالقرآن، وبغيره كأن يبلغه بتفاصيل من أمور الدين لم يذكرها القرآن، أو بحديث قدسي، أو بخبر يحتاج الرسول إليه، هو هذا الحديث الصحيح:
فعن عبدالله بن عمر عن أبيه (رضي الله عنهما قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله (ص)، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي (ص)، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام.. الحديث)..
وفيه أنه سأله عن الإسلام فأجابه، ثم عن الإيمان فأجابه، ثم عن الاحسان فأجابه، ثم عن الساعة فقال: (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل)، فسأله عن علاماتها فحدثه عنها..
وكان عقب كل جواب يقول للرسول صدقت.. ثم انصرف بعد انتهاء الإجابات، والجالسون يتعجبون من هذا التعقيب على الإجابة..
يقول عمر (رض): فلبثت ملياً، ثم قال لي الرسول: (يا عمر! أتدري السائل؟) قلت: الله ورسوله أعلم. قال: (إنه جبريل أتاكم ليعلمكم دينكم)..
وكان الجالسون يرون هذا القادم حتى وصفه عمر الوصف السابق، ويسمعون أسئلته ورد الرسول عليها وتعقيبه على الرسول بقوله: صدقت، مما أثار تعجبهم: من هذا الذي يقول للرسول صدقت؟
وبعد هذا الذي فصلناه من معنى الوحي وكيفيته نسوق آية كريمة تعرضت لتفصيل طرق كلام الله للبشر وهي قوله تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحى بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم).
وقد جاءت الآية بصورة الحصر (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا...) فذكرت ثلاث طرق، مع مراعاة أن المراد بالكلام: الإخبار:
(ا) (إلا وحياً): وهذا يشمل الإلهام حتى لغير الأنبياء والنفث في الروع والرؤيا الصادقة..
(ب) (أو من وراء حجاب): ويراد به تكليم الله لأنبيائه بدون وساطة بكلام يسمعونه ولا يرون متكلماً، كما حصل لموسى حين إرساله، وهو في الطور، ولمحمد (ص) حين عرج به إلى سدرة المنتهى..
(جـ) (أو يرسل رسولاً): وهذا ينطبق على نزول جبريل على الرسول بحالتيه السابقتين..
وبهذا تكون الآية قد وضحت أنواع وطرق الوحي للبشر، وإبلاغهم بمراد الله.. وتتلاقى الأحاديث السابقة مع الآية الكريمة.